فتاة القمر (قصة قصيرة جدا)

Illustrator: unknown.




لم يكن ثمة إلا حل واحد لهذه المشكلة، فقد كانت الأم تخاف بشدة أن يبلتع القمر ابنتها، وعليه، قامت بلصق عينيها بغراء.

لكن الصغيرة أخذت لياليها تبكي بكاء حادًا كلما دقت الساعة معلنة ظهور تلك الدائرة المضيئة التي تتوسط السماء. فلم يكن لأحد من أهل القرية إلا أن يسدل ستائر منزله وألا يخرج منه إلا عند الضرورة ناكسًا رأسه. لم يكن أحد منهم يريد رؤيته. ولم يكن أحد يريد أن يموت تحته.


أذاب دمعها الغراء، و رويدًا رويدًا.. بدأت تشعر بمايختبئ خلف الغيوم ليلًا. يلقي بخيوط مضيئة لتمد لها الطريق لتتبعه، ومشت تهتدي بخطواتها نحو نجم كبير.. ومغمضة عينيها، أخبرت أمّها بأنها ستذهب لإحضار الخبز ثم تعود بسرعة.

بدأت تعد خطواتها حتى ابتعدت عن المنزل وتوقفت عن العد.. أخذ الخباز يصيح من وراءها “أخفضي عينيك، لا ترفعي رأسك..” لكنها.. بدت كمن انفصل عن من حوله.

ولأول مرة، رأت ذلك النجم بوضوح.. فأخفضت الأشجار أغصانها، وأزاحت الغيوم نفسها عن الطريق، وسكنت الغربان. مدّت أصابعها الصغيرة تلمس سطحه الخشن البارد، غطّت الخيوط المضيئة جسدها حتى سكنت حركتها.. واختفت.

إستحضار ذكريات عائمة من نهر الليثون “قصة قصيرة جدا”

Artist unknown.

لقد مر وقت طويل منذ أن سمع أحدهم عن جريان نهر الليثون الذي يتوسّط المدينة الهادئة، تسري الأحاديث من أسفل الممرات والطرق، تقول: لقد كان الجميع يذهب للنهر ليغسل وجهه لينسى.. ثم ينسى لما آتى للنهر، يغمر وجهه ويطفو.

كلما جاء أحدهم لضفة النهر يبكي، يرى تلك الكُتل المنتفخة الطافية على سطحه، يقرر أن يبلغ الشرطة بذلك، لكنّه يغسل وجهه أولا. ثم ينسى، ويعيد الكرة مرة ثانية لعدة دقائق حتى يتكوّر ويطفو على سطحه.

تغذّى النهر بالجثث الطافية المنسيّة لسنين عدة. حتّى فاحت الروائح العفنة. وتقرر تجفيف النهر، لأن الحملات التوعوية والإرشادات والمطويات التي وُزعت للإبتعاد عنه، لم تأخذ بعين الإعتبار. فقد كان الجميع – أقصد معظمهم- لديهم رغبة شديدة للنسيان والبدء من جديد.

وكانت بداياتهم تطفو على سطح النهر، ببطون منتفخة، وعيون جاحظة، ولون أزرق قاتم يغطّي وجوههم وأصابع أيديهم. فلم يكن بالإمكان التعرف عليهم وهم بهذه الحالة.

جُفف النهر، ولكنّ التربة مازالت رطبة.. وبرك من الماء تمتلىء يوما بعد يوم. وعيون صغيرة تظهر بشكل متقطّع على طول النهر حتى يومنا هذا.

موسيقى: مِثلَ زهور البرّيَة، ألهمتني وساعدتني لإستكمال القصة. وعلى الرغم من شعوري الدائم بالنقص إتجاه القصص القصيرة التي أكتبها، لكنني أتركها تسري كما هي. تكتب نفسها بنفسها، مستمتعة بالنهايات الغير مفهومة، النهايات المفتوحة.. والتي بسببها – أحيانا – أشعر بتكّون كرة من الزغب داخل رئتاي، ناتجة عن الأحاديث الغير منتهية. ربما، أقول لنفسي مهوّنة عليها، سنكتب نهاية يوما.

أرجو قراءة القصة وسماع الموسيقى في ذات الوقت.


https://soundcloud.com/exkhroowkopc/jw7f9iikciyx?ref=clipboard&p=a&c=0&si=362926ea6d2a42da8d4f3cceb118b37e&utm_source=clipboard&utm_medium=text&utm_campaign=social_sharing

حول نهر الليثون: https://www.independentarabia.com/node/43501/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D8%B7%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AA/%D9%86%D9%87%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%AB%D9%88%D9%86-%D8%A3%D8%B3%D8%B7%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D9%86%D8%BA%D8%A7%D8%B2%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%A7%D9%85%D8%B6%D8%A9-%D9%82%D8%AF%D8%B3%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%BA%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D9%88%D8%AA%D8%BA%D9%86%D9%89-%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D8%A1

وداعًا ” علي محمد الجعكي “

انتقل إلى جوار ربّه الأعلى “علي محمد الجعكي” في الواحد والعشرين من أغسطس من عام ٢٠٢١.

ولمن لا يعرف من هو “علي محمد الجعكي” فهو أحد قامات القصة القصيرة في ليبيا.. ابن مدينة الخُمس، الذي لايعرفه أحد من حولي.

وجدت أمي كتابه بين مجموعة كتب، أحضرتها لي كطفل يتيم وجد على باب جامع. قالت لي: أمينة، احضرت لك كتب جديدة.. أمينة، هل تقرأي الكتب التي احضرها لك؟.

لم أكن أقرأ الكتب نظرا لإنشغالي، ولكني التقطت “سر ماجرى للجد الكبير” لصغر حجمه وسهولة اخفاءه بين أوراقي الدراسية.. وبدأت قراءته في فترة انشغالي بالدراسة.

عام ٢٠١٧، لازلت أذكر أول ملامح الدهشة التي ارتسمت على وجهي من أول صفحة وأول سطر. وما حفرته قراءتي لحالة تلبس داخل رأسي.

أنا، تحدثت عن حالة تلبّس كثيرًا، وأخبرت الجميع بأنها أفضل قصة على الاطلاق، لكن حقيقة.. ثمة قصّة تسكن ببراحٍ في قلبي، قصةٌ.. ممم أقول عنها بأنها قصة شجاعة.. هذا الكاتب شجاع.. من هو؟ كيف لم أسمع عنه مسبقًا! كم خجلت من نفسي.. ولما أتذكر سيلفيا بلاث في كل مرة أقرأ فيها قصته “الشاطىء الأخر” ؟.

إنه الموت، قصة كاملة عن الموت.. يصور فيها الجعكي مشهد موته أو موت القاص.. لا أعرف تحديدا. ولكنّه مشهد دقيق.. مفصّل، أحاول الهروب منه وعدم التحدث عنه، كلما سألني أحدهم عن قصتي المفضلة في الكتاب.. أو كلما سألت نفسي عن قصتي المفضلة في الكتاب. فلا أحد يسألك عن قصتك المفضلة ل علي محمد الجعكي.

قرأتُ خبر موته صباحًا.. في تعليق على منشور لي على الفيس بوك، أبحث فيه عن مجموعته “أموت كل يوم”. لم أجدها حتى الآن.

“يا لهذا الزمن الرديء المهلك!”

نص من قصّة “الشاطيء الأخر” المشهد الأخير:

” ضوضاء محببة تعم الشاطىء.. ”

رجل شجاع نبيل، وصف حالة الموت بدقة متناهية.. لا ترى الموت في كثير من الكتب.. أقصد مراحل الموت.. أو مايشعر به الميت. مالذي شعر به الكاتب أثناء كتابته للقصة؟.. انه أمر خانق حتمًا.

قرأتُ الكثير من الكتب، لكن لم يمر وصف مراحل لحظات الموت الا عند سيلفيا بلاث “الناقوس الزجاجي” عندما دونت لحظات انتحار البطلة. والإن، الجعكي.. في الشاطىء الأخر. كان يعرف بأن لقاءه مع جدته يعني موته.. لكنّه فضّل ذكر ذلك بتفاصيل دقيقة.

يا له من رجل شجاع. لم يهرب من الموت.

رحم الله علي محمد الجعكي رحمة واسعة، وجزاه الله خيرًا عن كل حرف كتبه وأمتعنا به. وليخلّد أسمه كأحد أفضل القصّاص الليبيين وإن لم يكن أفضلهم جميعا.

سر ماجرى للشيخ الكبير (قصة قصيرة)

يحمل الشيخ إبراهيم الكتب إلى شقته ويضعها داخل صناديق كرتونية. شقته مكتنزة بالكتب، تغطي الصناديق الجدران، والنوافذ.


أحيانا، يتداول الجميع الحديث عن سقوط بعض الكتب من شقة في الدور الرابع، داخل العمارة المطلة على الشارع الرئيسي. يتجمع الجمع لصعود الدرج، طارقا باب شقة الشيخ إبراهيم. يفتح الباب ممسكا كوب فارغ، يقوم بتعديل نظاراته، ومن ثمّ يبدأ الحديث الذي يصل صداه حتى نهاية الشارع. لا يستقبلهم، فليس ثمة مكان يتسع لكل هذه الجثث، يعايرونه بصرف كل هذه الأموال على الورق، ينفخ صدره، ولا تصدر منه أي ردة فعل، فقط يطمئنهم بأنه سيتوقف عن فتح النوافذ، وربما.. ربما.. سيتوقف عن شراء الكتب.


إلا أن الشيخ إبراهيم حقيقة، لم يشتري كتابًا يوما في حياته، وكل هذه الكتب عبارة عن تجميعات يقوم بالحصول عليها كل صباح أثناء جولته التفقدية حول المدينة.


على طاولة المطبخ، يجلس لأكل الفطور، تغطي الطاولة خريطة صفراء اللون لمدينته الكبيرة “بنغازي”، يضع عليها نقاط حمراء تشير إلى توزيع المدارس في المدينة. فبعد الثورة أُهملت المكاتب في المدارس، وأُلغيت حصة المكتبة.. فيما عادا القليل جدا.


إسترق السمع لحديث جارته المعلمة، التي كانت تحادث جارتها عن أن الكتب الآن تُرمى في الشوارع، وحتّى أنّ المدرسة التي تعمل بها، رمت الكتب داخل فصل كبير جدا، بسبب الصيانة التي لازالت مستمرة منذ ثلاث سنوات.


“لم يعد أحد يقرأ الكتب في وقتنا الحالي!.. للأسف”.
إخترقت العبارة طبلة أذن الشيخ واستقرت بداخل أذنه وأخذت براحًا..
لحق الشيخ ابراهيم جارته صباحا، وعلم مكان مدرستها، وعند حلول المساء، تسلس داخل أسوار المدرسة المنشودة، بحقيبته الجلدية ومصباح صغير ينير له طريقه. يفتح كل باب فصل يمر بجانبه.. وهكذا استمرّ إلى أن وجد مراده.


فصل كبير جدا، يتوسط الفصول الدراسية الصغيرة، ممتلىء بالكتب التي تغطيها الأتربة، أمضى ليلة كاملة يعاينها، لم يكن لديه الوقت الكافي للإختيار، وقراءة ملخاصتها، ثمّ حمِل منها ما حمِل وتوجه إلى شقته عائدا، فرحا لما تحمله يداه.


وهكذا، يقوم بعمله هذا كل يوم، متنقلا من مدرسة إلى مدرسة، صباحا يجلس لإعداد الفطور، يأكل ويقرأ كل ماتقع عليه يداه، حتى أنه في مجالس الشيوخ أصبح يجلس متحدثا عن …… وعن …… وعن…… يستغرب الجميع هذه الأسماء، يرمون أوراق اللعب، ويسألونه عنهم، لكنه أيضا لا يعرف من هم، فقط يعرف مايكتبون.. فيبدأ بالحديث عنهم من شخصياتهم الروائية التي يكتبون عنها أو من الملخصات المذكورة عنهم على الأغلفة.


لم يمضي عمل الشيخ إبراهيم بإحتجازه للكتب هكذا، يحمل حقيبته البنية ليلًا، ويخرج متوجها نحو مدرسته التالية، يقص طريق الساحة الخلفية المليئة بالأشجار، كغابة صغيرة تسكنها الذئاب ليلا، ينتبه إليه بعض السكارى والحشاشين، ثلاثة، صغار في السن، يربطهم ببعضهم البعض رباط مطاطي وإبرة واحدة، إنتبه أحدهم لوجود الحقيبة، وفكر..
“ربما سنجد عند ذلك المسن المال، لنشتري الإبر، والرباطات”
لحقوه، حتى إستأنس داره، ووجد الكتب، وما إن دخل وبدأ بإلتقاط ماتمد له يديه، حتى أوقعه أحدهم ضربا، وسقط مغشيا عليه. فتشت حقيبته، وملابسه، ولم يجد عنده شيئا.. ماعادا ورقة وقلم حبر جاف، وكتاب. أمسك أحدهم الكتاب ورماه على وجهه.. و رحلو.


استيقظ المسن، وأمام غبش عينيه يظهر شيئا فشيئا عنوان لكتاب ينام مستندا على خده، يفتح عينيه تماما، ويستيقظ.. الشمس على وشك الشروق، سيرن الجرس بعد ساعتين، ويبدأ الجميع بالتوافد على المدرسة، سينكشف أمره.. أخذ الكتاب ونهض ينفض التراب من على رأسه وكتفيه وبنطاله، رماه في الحقيبة، وخرج مسرعا يبحث عن ممر آمن.


ما إن عاد إلى شقته، حتى نفض الكتب الموجودة على الأريكة وأتاح مكانا له، جلس يتأمل السقف، وسبب نجاته. صلّى، وشكر الله، ثم أعطاه ميثاقا بأنه سيتوقف عن سرقة الكتب العامة.


ثم فكّر من جديد، وحاور نفسه بأنها ليست سرقة بل مايقوم به لهو فعل بطولي، إنه حامي الكتب من سوء الإستعمال والإهمال. ثم جلس بقية أيامه يفكر بالذين أبرحوه أرضا.. “شرطة؟.. آمن داخلي!!” يقول محدثا نفسه بقلق، “لكن من أين؟”.


يفتح حقيبته ويتصفح الكتاب الذي يظن بأنه قد أنقذه من الموت، يقرأ العنوان “سر ماجرى للجد الكبير” يفكر كثيرا، ثم يضع الكتاب على الطاولة، وينتبه-لأول مرة- لضيق شقته. يحاول التنفس ولكن يفشل في ذلك، يتوجه نحو المطبخ ويقوم برمي الخريطة التي ترسم معالم المدينة، تسقط الدبابيس الحمراء أرضًا، مخلفة خطًا من وراءه يقود إلى سلّة القمامة. يواصل تنظيف شقته، يفتح النوافذ ويبدأ بإسقاط كل الكتب في الشارع، تشكل هرمٌ من الكتب أسفل نافذته. حاول المارّة النجاة برؤوسهم، حتى طرق الجيران الباب عليه، لكنه استمر في رمي كل الكتب إلى الشارع، وما إن انتهى من عمله، حتى إزداد طرق الباب.


أغلق نوافذه، وعاد ممسكا بكوب كبير فارغ، مرتديا نظاراته، فتح الباب، وإستقبل جيرانه لأول مرة، “تفضلوا” قال ببالغ الأدب، محنيا رأسه قليلًا، استغرب الجميع، ولكنهم أيضا رغبو بالدخول ورؤية شقته التي لم يرها أحد مسبقًا.


“تفضلوا” أعاد مجددا على مسامعهم، بينما أحدهم يصرخ من الخلف متحدثًا عن نجاة رأسه من سقوط أحد الكتب عليه.. فتح ذراعيه، وعلى مديهما قادهم إلى الصالة الفارغة من كل شيء، ماعادا صالون بثلاث كنبات، وطاولة صغيرة في المنتصف عليها كتاب واحد، فارغة من كل شيء.. أجلسهم وحادثهم وضيفهم، ونسيَ الجميع أمر الكُتب في الخارج ومضوا بدهشتهم فرحين بما رأوه.


لم يعد الشيخ إبراهيم يخرج من شقته بتاتا، يعيد قراءة كتابه الوحيد مرارا وتكرارا، ويسأل ابن جارته الذي يزوره كل صباح لأخذ نقود الخبزة والحليب منه “هل تعرف سر ماجرى للجد الكبير؟*”. يجيب الصغير بالنفي، ثم يؤكّد الشيخ على أنّه أيضا لا يعرف شيئًا..
“لكنّه أنقذني” يقول.. مؤكدًا على ضرورة احضاره لخبز ساخن.

قراءة: الجعكي يحيا بالكلمة.

علي محمد الجعكي

بالنظر إلى القصة القصيرة، يظن المرء بالتأمل فيها لفترات طويلة، أو حتى أثناء قراءته لها، بأن كتابتها لأمر سهل للغاية، ولكنه تحديّ حقيقي لمن لا يريد إغفال ذكر التفاصيل. توضع المقدمة ومن ثم الحدث ومن بعد ذلك النهاية التي لطالما أتت فجأة وعلى حين غرّة من القارىء.

تُحشى الأحداث في سور ضيّق، وتسرد بعدد كلمات وعدد صفحات معينة، فالقصة القصيرة –وإن طال الحديث عنها- تتمتع بمقومات تجعلها مختلفة عن باقيها من الكتابات الأخرى، لها جمهورها الخاص بها، وكتّابها المتخصصين؛ نظرا لصعوبتها.


وإن نجح القّاص في سرد حكايته فعلا، فإن النتيجة تكون بإعادة القاريء قراءته لها مرات معدودة ليفهم مالذي حدث بالتحديد أثناء قراءته الأولى. ولتجيب عن أحد أهم الأسئلة “كيف؟” فالقصة القصيرة لا تقرأ على عجل، هذا العالم المتخيل الذي ينشأ فجأة بقراءتك لأسطر معدودة قد يلازمك طوال حياتك.


ولتعاد قراءة القصة مرات معدودة، وليذكر إسمها بذكر إسمك، يجب أن تمتلك المفاتيح اللازمة التي تساعدك على الكتابة.. أن تمتلك مقومات اللغة، والكلمات، وحس المغامرة.


في الأدب الليبي، توجد الكثير من الكتب التي تسرد القصص بطرق وأساليب مختلفة، المملة منها وكأنها واجب تعبير مدرسي، ومنها المثير للإهتمام، الراقص، الشيّق، الذي يلبسك كغطاء لتدفئتك من المطر الذي يوشك على الهطول أثناء القراءة.


ففي مجموعته القصصية “سر ماجرى للجد الكبير” وتحديدا في قصته حالة تلبّس المنسردة في صفحات معدودة، يستحضر الآديب والقاص الليبي “علي محمد الجعكي” جو الحافلة العامة في طقس صيفي حار جدا، على الرغم من أنه لم يذكر ذلك، لكن ضيق المكان وضيق الكرسي والجار الجالس على قلبه يضعانك في جو صيفي حار عند درجة حرارة 38 س تقريبًا، تجد نفسك فجأة جالس من الخلف، مراقبًا حركة الجميع، تخرج من الحافلة بشق الأنفس، مبلل ومغطى بقاذوراتك وبقاذورات من كانو معك.

يدا بيد يمر الجعكي مع القاريء على صفحات كتابه، محدثا إيّاه عن ماتحمله النفس من أثقال على كتفيها، وحالات شخصياته النفسية المتفاوتة، وعن صراعاتهم اليومية، وسذاجاتهم. و مايميز كتابات الجعكي هو إستخدامه للسرد بطريقة تصويرية أقرب إلى الشعر، مايجعله واحد من أفضل كتّاب القصص القصيرة على مستوى البلاد، هذا لأنه لم يستهن أبدا بما يكتب في عدة صفحات أو حتى أسطر، بل آثر على نفسه التغنّي بالكلمات وعرض صوره البليغة المتمثلة في الكلمات المتلاصقة بحرفيّة تامة، حتى تصبح أقرب إلى الحقيقة أثناء قراءتها.


فلا يمكن للقارىء العادي أن يشعر بأنه أيضا جالس في الحافلة، مخانقا بالروائح النفّاذة، أو أن يرى جبال أكاكاوس متجسدة أمامه أو حتى أن يشهد موته غريقا، إلا إذا كانت لديه ذائقة الكلمة والصورة.


حالة تلبس “قصة قصيرة” علي محمد الجعكي:


(أيها الجسدُ المُتبّل بالآلم.. أيها المطر الأرجواني الوحشيّ.. تهطلُ غيماتك السّود في الأحراش اليابسة، في غيابةِ النفس تنمو أكاليلُ الشّوك. يترعرعُ الألم. يتفتّقُ برعم الوسواس والتحوّل. الخجلُ يطفو كلوحٍ زنخ. يتشكّل كورمٍ مُخيف. ينمو بسرعةٍ في نفسي […]..)


علي محمد الجعكي، مواليد مدينة الخمس 1952 -بحسب قناة الخمس الحرة على الفيسبوك- ونظرا لفقر المعلومات عن هذا الكاتب الرائع، فقد قرأت أيضا، بأنه عمل كأحد موظفي القسم الثقافي بمكتب النشاط المدرسي بمراقبة التعليم “بلدية الخمس” وأحيل على التقاعد عام 2016 بعد بلوغه السن القانونية للتقاعد، عمل معلمًا ومن ثم إنتقل للعمل بمكتب النشاط المدرسي بالمنطقة. ويعتبر عضو بارز برابطة كبار الأدباء الليبين، شارك في العديد من الصحف والمجلات الليبية، ومن أعماله في القصص القصيرة “سر ماجرى للجد الأكبر” “زهرة الليل” “أموت كل يوم” والتي ترجمت للغة الإنجليزية وتدرس الآن بجامعة كامبريدج بقسم الدراسات الشرقية، له أيضا رواية جاهزة للطباعة تحت عنوان “ابن الغبار وحياة أخرى”.


إن الجعكي من أكثر الكتّاب الذين قرأت لهم يكنون إحتراما كبيرا وبالغا للقصة القصيرة، يعمل على بناء قصته رويدا رويدا، كحديقة سريّة يبنيها ويزرع بها مايطيب، حتى يجهزها ويخرجها للملأ.. تامة. فلا يمكن لأحد أن تقع بين يديه إحدى نصوصه، وألا ترتسم على وجهه علامات الدهشة مما قرأ، وألا يتم إرساله لأحد العوالم المتخيلة الخاصة به.


“لا أدري لماذا أخذت تحاصرني هذه الكلمات الغريبة، يا له من شيطان همجي هذا الصديق المعتوه.. سيطرت عليّ أفكاره السوداء.. وأخذت تدق في داخلي كالنبض.. تشعبت كجذور نبات سام في كل أطرافي.. لماذا لا أجرب لمرة واحدة؟”.

بائعة الكلمات “قصة قصيرة”

By me

لم يتركا والدا وورسيلا لها منذ رحيلهما شيئا، ما عدا منزلا صغيرا به غرفتان، واحدة للنوم والأخرى مليئة بما يحصلان عليه كلما ذهبا في رحلتهما الصباحية نهاية كل أسبوع. تتذكّر وورسيلا مشهد إنتظارها لهما عند المساء. يعودان محملين بالكثير من الغنائم في رأسيهما.. فارغي الأيدي. تستقبلهما فرحة.. وتسألهما: ماذا أحضرتما لي؟ ماذا أحضرتما لي؟ يردّان: أحضرنا لك الكثير. “أين؟” تسأل وورسيلا بقلق “لا أرى شيئا! هنا”. تضحك الأم، وتشير نحو رأسها. يدخلان إلى الغرفة ويقفلانها ولا يخرجان منها إلا عند صباح اليوم التالي. تلك الغرفة لطالما كانت محل فضول بالنسبة للصغيرة، مالذي يحدث خلف أسوارها، وعلى ماذا تحتوي تحديدا؟ ولما تنبت أوراق خضراء على جدارنها؟
في ليلة غائمة، أمام عتبة المنزل، إنتظرتهم وورسيلا بضفيرتيها الذهبيتين، لكنهما لم يعودا. مرت الأيام والأسابيع. ولكن شيئا لم يحدث.
دلفت الصغيرة المنزل، وجلست متسمرة أمام الغرفة. بعد عدة دقائق، نهضت وبدأت تبحث عن المفتاح. وبعد محاولات كثيرة فاشلة. عادت وجلست أمام عتبة منزلها، منتظرة عودتهما من جديد.

دخلت من جديد، تحمل قلبها المثقل بالحجارة بين يديها. إقتلعت باب الغرفة غاضبة. ظنت أنهما.. ربما، إبتلعتهما الأوراق والكتب بداخلها. لكنها كانت مخطئة. الغرفة.. خضراء. جنّة صغيرة. جدرانها ناصعة البياض، تعانقها مكتبة خشبية ممتدة حدّ السقف، ما إن تمد يدها لإلتقاط أحد الكتب حتى يطير الغبار والفراشات. تفتح الكتاب تلو الأخر، وتتمدد منه أغصان طويلة بنيّة اللون، وأوراق صغيرة خضراء.. تتفتح الأزهار البريّة الواحدة تلو الأخرى.. تلتقط هندباء، تنفث فيها وفي قلبها أمنية. رقصت بين أحضان الأوراق والفراشات، حتى لمحت الجرّة في زاوية الغرفة. تحركت بإتجاهها بدهشة صغيرة، تملؤها الخيبة.. ما إن أمسكتها، حتى نفث منها شعاع خافت.. تطلعت بداخلها و بدت لها أوراق صغيرة مطوية بها الكثير من الكلمات. كل ورقة تحمل بداخلها كلمة. حرّكت الجرة قليلا، ووجدت صناديق صغيرة مرتبة بالأرقام فوق بعضها، فتحتها الأخرى ووجدت أوراق صغيرة أيضا و مطوية وبها كلمات أخر. دُهشت لما تراه عيناها. فكّرت بما قد تفعله بكل هذه الكلمات. مضت ليلتها وهي تقرأها، وفي كل مرة تقرأ إحدى الكلمات حتى تشعر بتشكّل فقّاعات داخل رئتيها تخرج بخروج الكلمة من حبالها الصوتيّة.. فكّرت كثيرًا، بما قد تستفيد به من هذه الأوراق الصغيرة. وبحثت في الغرفة حتى شروق شمس صباح اليوم التالي. عزمت بعد ذلك، وبعد بحث طويل، أن تذهب إلى القريةِ التي تحدّث عنها الجميع ووالداها، حيث لا يسكنها إلا من نقصتهُ كلمة، ولم يستطع إتمام جُملته.

وضعت في حقيبتها خبزا محمصا، وعلبة مربى البرتقال التي تركتها والدتها على الرف قبل أن تذهب، وأفرغت كل الصناديق والجرات في حقيبتين صغيرتين، وماتبقى من الأوراق وضعتها في جيبيّ المعطف. أقفلت باب الغرفة، وباب المنزل وخطت خطواتها الأولى في الطريق، ضائعة، محاولة لملمة شتات نفسها.. قليلا قليلا، حتى وصلت.

وما إن حطّت قدماها على الأرض الواسعة المملوءة بالمنازل الخشبيّة، حمراء اللون، حتى بدأت بالبحث عن من تنقصه كلمة؛ لتبيعه الكلمة المناسبة ويُنهي حديثه. كان الجميع يعاني من تلك اللعنة، أحاديث غير منتهية. جلست في الساحة، رفعت يافطة كُتب عليها بخط كبير “الكلمة بخمس دراهم”.. إنتظرت.. لم ينتبه لها أحد. ثم، وبعد مرور عدة دقائق طويلة.. توافد عليها شخص، ثم إثنان.. ثلاثة.. ذاع صيتها، الجميع فرِح والدراهم تتساقط على رأسها كحبّات المطر، وهي ضاحكة متبسمة.. بيعت الكلمات في سبع دقائق. الكثير الكثير من الأحرف المتلاصقة. الجمل الناقصة إنتهت، كل الأحاديث والنقاشات حُلّت. أحدهم حصل على وظيفة، الأخر تزوّج.. الأخر أعرب عن قلقه.. الجميع تحدّث.. و الصغيرة فرِحة بما صنعت.. حملت يافطتها وحقائبها الصوفيّة الفارغة من الكلمات، وحقيبتها المملوءة بكسر الخبز المحمص والدراهم. عادت إلى المنزل، ومن وراءها حفل راقص، وأغاني وأحاديث مطوّلة في القرية التي لن تنام بعد الآن. وبعد يوم كامل من الإحتفالات.. دخلت لباحة المنزل، ألقت كل ماتحمله على الأرض، ركضت نحو الباب الذي فتحته بقوة.. أرادت أن تنادي على والديها لكن شيئا قد حدث.. شيئا قد إختفى، الغرفة الخضراء أصبحت مُظلمة.. الكتب أصبحت مجلدات جافة فارغة يأكلها السّوس. الكثير من الصناديق المبعثرة. والأوراق اليابسة والأغصان المتناثرة بلونها الأسود. أرادت أن تنادي على والديها.. لكن الكلمات قد رحلت. الحروف إختفت. الفقاقيع ماعادت تتشكّل. وصوت عويلٍ خافت يتردد صداه من طفلة صغيرة، يُسمع في كل ليلة أمام منزل يقبع في وسط الغابة. ذيع صيتها مرة أخرى. لا يمرّ من أمامها إنس. تصطاد المارّين لتنزع كلماتهم، حتّى تقوم بكتابتها من جديد في ورق صغير وتُلقي به في جرة.

إمرأة الرسائل وصندوق البريد. (قصة قصيرة)

Woman Reading in a Violet Dress. Henri Matisse

Woman Reading in a Violet Dress. Henri Matisse

 

استيقظت صباحًا على صوت شاحنة ضخمة تمر الشارع كل صباح عند السابعة وسبع دقائق، كل يوم تقريبا. ولكن اليوم شعرت بأنها اخترقت جُدران غرفتي، ومرّت بجانب سريري. ومن بين تلك الفوضى العارمة، كان صوت جرس دراجة ساعي البريد ضعيفًا، يصرخ من بين صوت عجلات الشاحنة الضخمة، ليضع الرسائل التي لايقربها ولا يقرأها أحد في الحي عادا أمي. تقوم صباحا لتجمع الرسائل من الصناديق تضعها على طاولة الإفطار، تشرب الشاي وتقرأ. تشرب، وتقرأ. ثم تقضم قطعة من البسكويت.. وتقرأ. أحيانا تبكي، وتخبرني بمحتوى الرسالة لأنقلها للمرسلة إليه.
قالت لي: عليك أن تخبري السيدة فاطمة بأن إبنها قد توفي في أنجامينا. قولي لها بأنه شهيد ولن تبكي.” أسألها أحيانا عن أسباب الوفاة، لكنها لا تجاوب. وأثناء الإنتهاء من مراسم القراءة، تقوم بجمع الرسائل وحرقها في المدفئة. إنه الجزء السيء من كل يوم.
أتسائل لما لا تقول أمي لساعي البريد أن يضع الرسائل كلها في صندوقنا، لتوفّر على نفسها الوقت والجُهد. حسنا.. يبدو بأنها تستمتع جدا بالذهاب كل الصباح، لشراء الخبز الطازج الساخن، وجمع الرسائل من صناديق بريد الحي.
عندما تم توزيع تلك الصناديق، لم تعرف النسوة ماذا تفعل بها.. لا يوجد من يحب القراءة هنا، تشعرهن بالتعب والإرهاق، لذا اقترحت أمي أن تقرأها لهنّ، وتُرسلني لإخبارهن عن محتواها. وافقت بعض النسوة وبعضهن عارض ذلك “تريدين أن تطّلعي على خصوصياتنا” قالت إحداهن.
“حسنا” قالت أمي بكل حزم، بعد أن عدّلت نظارتها ووشاحها “من تريدني أن أقرأ لها رسائلها فالتضع شريطة حمراء على صندوقها، سأمر لأخذ الرسائل في الصباح غدا اثناء عودتي من المخبز. ومن لا تريد، فلا بأس” شعرت أمي بالحنق الشديد أثناء عودتنا من تجمع النساء الشهري في الحديقة، بعد كل هذه السنوات لازالت هنالك نسوة لا يثقن بها. كنت أستمع لصوت أقدامها ذلك اليوم، لم تنم. كانت تدور في الغرفة إلى أن أشرقت الشمس. خرجت في موعدها.

استيقظتُ من بعدها، جهزتُ طاولة الإفطار، وإنتظرتها بقلق شديد نخر أمعائي. أن لا تعود بشيء. ويخيب ظنها، وتصبح فارغة من جديد. بعد عدة ساعات، عادت أمي من المخبز، تسلك عادة طريقًا مغايرة للحي، حتى لا تمر بالصناديق، وحتى لا يصبح المشهد مكرر. كانت الشرائط ترفرف، شرائط حمراء كثيرة على طول الشارع، منزل.. اثنان.. ثلاث.. أربع.. أوه صندوق السيدة زينب لا يغلفه شئ، يبدو بأنها ترفض ذلك.. خمس.. ست.. السيدة مريم أيضا يبدو بأنها تعارض.. لايهم ذلك. عادت أمي بالرسائل، قرأتها على الطاولة. كانت تقرأها على مسمعي بصوت عال، ولكن بمرور الأيام والوقت.. إنخفض صوتها، وأصبحت تقرأ لنفسها، بعينيها فقط. تبكي أحيانا وتضحك أحيانا أخر.. أحيانا كانت تزغرد. بمرور الزمن أصبحت الشرائط الحمراء تزين الحي، ذاع صيت أمي بين النسوة، قارئة جيدة وأمينة. كانت تجعلني أكتب ملخصًا لكل رسالة، بحجم صفحة أو إثنان من دفتري، تقلّص الحجم إلى سطر أو سطرين.. وأحيانا ثلاث كلمات فقط، تكفي لإيصال الخبر.
عودة للصباح الأول، أخرجت دفتري وسجلت ماقالته أمي: إبن السيدة فاطمة توفي في أنجامينا. لا تنسي إنه شهيد.
ألا توجد أخبار سارّة..؟
ملاحظة أخرى: توفيت عائشة إبنة السيدة زينب أثناء انجابها لطفلها الأول في الخمس..
اخرى، للسيدة ريم: توفي مروان وثلاثه من أصدقائه أثناء ذهابهم للجبل الأخضر. سقطوا في الوادي. عدلت عن رأيها: “لا.. لا.. لا تخبريها بذلك إنه أمر مؤلم. مؤلمٌ جدا”.
أملأ دفتر الملاحظات الخاص بي، بأخبار الوفيات.. لا أذكر عدد الدفاتر التي إستهلكتها، ولكنها كانت تتراكم فوق بعضها على الطاولة، وتحت السرير، فكرت لو أني أصدر مجلة بخصوص ذلك، مجلة أسبوعية خاصة بنسوة الحي ورسائلهن، فكرة حالمة.  لقد كانت تلك الرسائل، أخر مجموعة تقرأها أمي، كنت أعرف ذلك لأنها كانت تأخذ وقتا بين الواحدة والأخرى. تقف لتدور في الصالة. عندما تدور على نفسها، هذا يعني بأنها عازمة على فِعل أمرٍ ما. خفت وهجٌ أمي مع الزمن، أصبحت تخرج بحضور الشاحنة المزعجة عمدًا، حتى لا ينتبه لها أحد.. أخذت المقص وقصت الشرائط الحمراء الممتدّة على طول الحيّ، أصبحت الرسائل تتراكم أمام صناديق النسوة، أرادت إنتزاع صندوق البريد الخاص بنا، ولكنّه كان أقوى من أن تنتزعه إمرأة إستنزفت قواها في قراءة الرسائل، لذا حولته لبيت عصفور، كلما إقترب ساعي البريد، هجم عليه. توقفت عن قراءة الرسائل والخروج. إستبدلت الباب الأمامي للمنزل بالخلفي، حتى لا تقابل النسوة برسائلهن لتقرأها لهن. تغيبت عن الاجتماعات الشهرية لنساء الحيّ، لأنها إنتبهت بأنهنّ يحضرن بأكياس صغيرة، يكبر حجمها كل مرة، في كل إجتماع مليئة بالرسائل ورائحة الحبر والطوابع البريديّة.
أصبحت تستيقظ كل صباح، تنظر في المرآة، تُخاطب نفسها وتقول ثلاث مرّات: يجب عليَّ أن أتوقف عن الشعور بالأخرين” حتى تقتنع.. وتمضي.

كرنڤال الراسورات

إنني أخشى من أنني قد أوهم نفسي
في بعض الأحيان..
لا، بل في كثيرٍ من الأحيان
بأن الأوضاع ستتحسّن.
“ستتحسّن يومًا، ويصبح كل شيء بخير“
-يا إلهي!
إنني أوهم نفسي مرة أخرى!
أكذب على نفسي مرة أخرى!!.

يامدينة المستنقعات الراكدة
والطحالب الخضراء
والدوسنتاريا
إنني أطفو فوق ظهرك
وأقبّل يديك
افتحي لي
جميع النوافذ المغلقة
مرة واحدة فقط!

واليد التي تكبّل
عنقي من الخلف
ستُقطع يومًا..
ويد الوحش الكبير
التي تقبضُ على معدتي
ستفلتني يومًا.

إنه القلق!
القلق الدائم.
القلق من كل شيء.. وأي شيء.

كاذبة.. كاذبة.. كاذبة..
ورائحتك زائفة ونتنة.
وتخافين الحُلم.

واقعيّة أكثر من اللازم
بطريقة غير مريحة البتّه
بطريقةٍ مزعجة أحيانًا.
بطريقةٍ مُبكية..

رأسي ملئ بالراسورات
الكثير من
الراسورات النابضة،
لايمكن عدّها.
تطنّ في رأسي
كلما اختليت بنفسي.

فراغٌ.. فراغٌ.. فراغ!

لاأستطيع جمع شتات نفسي
وأشتاق لروحي القديمة.
إنني أنجر الى هوّة ساحقة
ومعتمة.
لا أرى فيها
الا بعض النقاط البيضاء!
لا، انها ليست نقاط بيضاء.
بل عيونٌ تبصرني!.
لا.. ليست عيون أيضًا..
بل……
أوه.. مالذي آراه بالتحديد؟
يجب أن أمسح نظارتي.

بمناسبة اليوم العالمي للمرأة.

قلاقل

يحتفل العالم في الثامن من شهر مارس/آذار باليوم العالمي للمرأة من كل عام. تذكيرًا للعالم بإنجازاتها الإقتصادية والإجتماعية وأيضا السياسية، والأهداف التي حققتها ولازالت تعمل على تحقيقها رغم كل الصعوبات التي تواجهها.
في هذا اليوم لاننسى أن نذكر المرأة الليبية، ضحية الحرب الأولى، التي تعاني الأمرّين مرار تبعات الحرب والمجتمع الذي يُضيّق عليها الخناق في كل مره! وهذا ماقد ذكرني بإحدى الإستبيانات الإلكترونيّة التي قُمت بإجراءها يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2016 والذي كان عبارة عن نموذج تعبئة لمعرفة والتواصل مع فئة النساء المعنفات في ليبيا.
النتيجة لم تكن مرضية للأسف وهذا ماجعلني أقوم بتأخير نشر النتائج..! فقد كان حجم العينه المستهدفه 50 إمرأة! لأن كانت فئة كبيرة متخوفة من تعبئة الإستبيان لأسباب مجهولة، كما أن البعض تنكّر بأنه قد تعرض للعنف.
البعض أيضا لايعرف مالمقصود بكلمة عُنف.
وعلى كُل حال، هذا اليوم مناسب جدا لمشاركتكم بمحتوى الإستبيان، وإن كانت النتائج ضئيلة قليلة إلا أن هذا يعني بأنه أمر موجود ومُسلّم به.. كما أتمنى أن يقوم  أحدهم بإكماله وذلك بإستهداف حجم عينه أكبر وتوسعه في الأسئلة أكثر..

تنويه:

– الإستبيان عمل شخصي لغرض الفضول فقط.
– الفئة المستهدفة كانت من النساء.
– تم نشر الإستبيان إلكترونيًا فقط.
– حجم العينة 50.


الأسئلة:

 
1) نوع العنف الذي تعرضتي له:
            * جسدي [كالضرب] 25%
* لفظي [بالأقوال والشتائم والإمتهان] 39.6%
* جنسي [تحرش، إغتضاب، هتك عرض..إلخ] 27.1%
* غير ذلك 8.3%
 
2) في أي من المراحل العمرية الآتية تعرضتي للعنف؟
            *الطفولة المبكرة (3-6) 2.1%
* سنوات الطفولة الوسطى(6-9) 14.6%
*سنوات الطفولة المتأخرة (9-12) 10.4%
*سنة المراهقة(13-17) 27.1%
*سنة البلوغ (18-23) 22.9%
*سنة الرشد 22.9%
 
3) الطرف الممارس للعنف:
            *الأب 22.9%
*الزوج 12.5%
*الأخ 20.8%
*الإبن 0.0%
*غير ذلك 43.8%
 
4) مامدى تكرار حدوث هذه الممارسات؟
            *مره واحده فقط ولم تتكرر 8.3%
*مرات قليلة جدا 33.3%
*بشكل متكرر ودائم 54.2%
*غير ذلك 4.2%
 
5) مامدى تأثير العنف الذي تعرضتي له في حياتك؟
* نعم فقد أثرت على حياتي الاجتماعية ( رهاباجتماعي- لعثمة-انطوائية) 16.7%
*نعم فقد أثرت على حياتي العلمية ( تأخر دراسي- انعدامالرغبة في التعلم- سرحان داخل الفصل -اختيارتخصص لاأرغبه) 10.4%
*نعم فقد أثرت على حياتي النفسية ( اكتئاب – خوفمزمن- شعور بالظلم والغيرة) 52.1%
*غير ذلك 20.8%
6) الحالة الإجتماعية:

يوضّح الإستبيان أن أكثر الحالات تعرضًا للعنف هنّ من النساء الغير متزوجات، ثم المتزوجات واللاتي يكون المُعنّف لهن الأول والرئيسي هو الزوج، وعلى الأغلب يكون نوع العنف لفظي.

*عزباء 72.9%
*متزوجة 20.8%
*أرملة 0.0%
*مطلقة 6.3%
7) المهنة:
*طالبة 45.8%
*موظفة 37.5%
*ربة منزل 14.6%
8) البيئة التي تعيش فيها:
*مدينة 93.8%
*قرية 6.3%
9) ماهو سبب التعنيف برأيك؟
*تدنّي مستوى التعليم 12.5%
*رب الكحول والمخدرات 0.0%
*مرض نفسي 29.2%
*البيئة وفهم قوامة الرجل على المرأة بصورة خاطئة 45.8%
*غير ذلك 12.5%
10) هل قمتي باللجوء إلى أحدهم للحماية؟
*نعم 27.1%
*لا 72.9%

بعض الحلول التي طرحنها المشاركات في هذا الإستبيان كانت قاسية جدا وتُعبر عن الغضب، البعض الأخر كان يائس تماما من حل هذه الظاهرة.. إلا أن ما إتفقت عليه الأغلبية هو تحسين التعليم، وإقامة حملات واسعة تشمل الجميع للحد من العنف ضد المرأة.. بعض من المشاركات من اللواتي تعرضن للعنف الجنسي مثلا من الأقارب، تركن نصائح كالإنتباه للأطفال وعدم تركهم مع الأقارب، والغرباء.

  • تفعيل قوانين تكون في صالح المرأة المعنفة لأن القوانين الحالية “زادت الطين بلة”.
  • التوعية ضد مخاطر العنف ضد النساء رفقا بالقوارير الاسلام عظم المرأة لتكون قوية لا لكي تهان.
  • توعية الاطفال وحبهم وواعطاءهم الآمان للإخبار عن المتحرشين.
  •  هو تغيير البيئة للأفضل وصقل المفاهيم .. توفير ضوابط و عقوبات قانونية ونشر ثقافة الحماية الشخصية بدلا من الخوف ” الخوف من العار والحشمة الزائدة … الخ ” من المعتقدات السائدة.
  • تغيير عقلية المجتمع من الالف الي الياء, تربية اساسا خاطئة علي ان قيمة البنت او المرأة أقل من قيمة الرجل و التفرقة في المعاملة بين البنات والاولاد مند الصغر, الزواج المبكر (الذي يعتبر اغتصاب), نقص حاد في القوانين الي تضمن حقوق المرأة سواء في الشرع او القوانين الوضعية. شعب جاهل ومتخلف من الاخير, البنات هابلين بيتزوجوا, والولاد محتقرين المراة وقيمتها ويتشرطوا نتيجة هدا الهبال الي هو اساسا ناتج عن ظغوطات وفروقات اجتماعية بين البنت والولد. العلم أفضل طريقة للحد من الجهل.
  • الحل هو وضع قانون يمنع التعنف الجسدي على الاقل (بصفتي مواطنة ليبية فأنا أتعنف كل يوم بالعنف اللفظي سواء من أهلي، أقاربي او شباب الشارع عن طريق المعاكسات).
  • التوعية الكاملة للطرفين عن التحرش في سن مبكرة.
  • الحل ممكن يكون توعية المقبلين على الزواج ، المرأة مش مجرد أداة لتفريغ شهوة هيا طرف من هالعملية لتكتمل و ما يصيرلها أذى.

*قمت بنقل بعض الأجوبة كما هي.

أما عن العقوبات والقوانين الازمة التي يجب أن يتم تطبيقها إتجاه المُعنِّف فقد إتفقت الأغلبية على السجن والغرامة المالية.

 


 

وعموما، تبقى هذه النسب الضئيلة والعدد الصغير مثالا قاطعا على أن العنف موجود، على الرغم من أنه لايمكن تعميم هذه التجربة ولكنّنا نتمنى أن يتم القيام بحملات توعية أكثر، لاتستهدف فقط الطبقات (المخملية) بل أيضا الأقليات. أولئك المقاتلات في صمت! وأن يتم تعريف المرأة على العقوبات والقوانين الفعالة التي تسري في صالحها في وقتنا الحالي، وتعريفها بحقوقها أكثر. وهذا الأمر يخص ذوي الخبرة في القانون.

يوم إمرأة عالمي سعيد لكل اللواتي يقاتلن يوميا في هذه الحياة لتحقيق طموحهنّ وأحلامهنّ.. ولأمّي المحاربة الأولى والأخيرة.

الشّكر أخيرا لكل من ساهم في القيام بهذا العمل.

قراءة بسيطة لبعض مما قرأت في الآدب الليبي.

🎐

تحصلت منذ فترة ليست بالطويلة، على مجموعة كُتب تخص الأدب الليبي.. بعضها من الكتب المستعمله
( إحدى الأسباب التي تجعلني أحب الكتب المستعملة، هو أن الكثير منها قد أصبح نادر الحصول عليه) هذا قليل من كثير في عالم الآدب الليبي، الذي يقتصر فقط في وقتنا الحالي على المتعارف عليهم من الأدباء، مثل الصادق النيهوم والكوني. وعلى الرغم من مكانتهم في الأدب الليبي محليًا ودوليًا، إلّا أن هذا يسبب في ظلم شديد لبقيّة الأدباء من جنس بلدهم، الغير معروفين حتى محليًا، وعلى الأقل لفئة الشباب الناشئ. هذا الأمر لايقصيني من جهلي في عالم الأدب الليبي، حتى حصولي على هذه المجموعة.

ماقرأت من المجموعة

التبر – إبراهيم الكوني.
كعادات الكوني، ميثولوجيا الصحراء في رواياته موضوع أساسي لامفرّ منه! لكنّها أمر ممتع أيضا. فللكوني سحر يجعلك تحضر في وسط الصحراء، يمكنك إن إنغمست في قراءته، أن تشعر بحرارة الشمس وهي تلفح وجهك، وتتحسس فمك الجاف والعطش.
هذه القراءة الأولى ولن تكون الأخيرة.
بطل الرواية رجل من رجال الصحراء، ومن قبيلة لها مكانتها إسمه “أوخيّد” الذي يحب مهريه الأبلق حبًا جمًا. حتى أنه آثر في حبه له، زوجته وأبناءه ووالده.. والموت. كان أوخيّد يرى في مهريه الإنسان أكثر منه الحيوان الذي لايفهم. كأنها روحه متجسدةٌ في جلدٍ حيوانيّ كبير.

image

رصيف آخر – سالم هنداوي.
سالم هنداوي كاتب ليبي، لم أكن قد سمعت عنه سابقا. في هذه المجموعة كتب عدة مقالات، وكأنها مذكرات أقرب لتكون مقالات. إلّا أنّ عيبها الوحيد، أنها كانت تفتقر للآدب. ستشعر بالملل وأنت تقرأ في كثير من الأحيان، كما أنّ القارئ سيتسائل “وماذا بعد هذا؟” أثناء وقوفه على عدة مقالات.
أنا لا أدري حقيقة لما طُبع هذا الكتاب، ولكنّ يكفيني شرف القراءة لشخصيّة مثل سالم الهنداوي..
آمل أن أحصل على روايته “خرائط الفحم” حتى تكتمل الصورة.

*
ماجعلني أكتب هذه التدوينة حقيقةً، هي المجموعة القصصيّة “سرّ ماجرى للجد الأكبر” لـ علي محمد الجعكي.

image

تتألف هذه المجموعة من 10 قصص قصيرة، تتميّز بأسلوبها الأقرب إلى الشعر والتعابير المجازيّة، وكثرة الإستعارات.
إستمتعت جدًا بقراءتها، وتوقفت عند الكثير من الأسطر فيها. لقد مضى وقتٌ طويل على قراءة مجموعة قصصيّة بهذه الجودة الممتازة والرائعة.
يأخذ الجعكي القارئ في غياهيب جُبّ النفس، وبمواضيع مختلفة يسرد لنا حالات المرء النفسيّة المتفاوتة. إلّا أنه في الواقع ما آثار فضول نفسي وحرّكها، من بين جميع القصص، هي القصّة المعنونة بـ [حالة تلبّس] ومستهلّها الأخّاذ:

(تروسٌ ضخمة تدورُ في أعماقي كحجر طاحون. حديدها البارد يقطع وسطي المُلتهب. تمضغني أضراسٌ كثيرة نهمة. يحتويني عنكبوت الآلم بأذرعه اللزجة. إنسحاقٌ بداخلي كجوف الأرض، يتفتت ذرّاتٍ دقيقة. سديمها يصعدُ إلى رأسي. الدخان والغبار الصخري يمورُ في جمجمتي كمراجل أسطوريّة. قطراتٌ تطفر من جبيني السّاخن وتتبخّر كالندى).

أصل القصّة كما سردها القاص، تتحدّث عن معاناة رجل يتألّم ويريد دخول الحمّام بشدّة وهو جالس في حافلة ضيقة بجانب جاره المزعج الذي يزيد آلامه مرارة. لكنّ زمام الأمور تنفلت منه ويستسلم لقضاءٍ يُنفر الجار وراكبي الباص، ونفسه من نفسه.
القلق.. إنّه الآلم الذي يأكل الأحشاء، الخوف من المجهول والخوف من نظرات النّاس، التصنّع بما لستَ عليه لأجل إرضاء الجميع.. حتى نفسك.
لن تغفر لك نفسك فعلتك هذه!.
تتحوّل إلى مسخٍ بعد عدة أيّام من المحاولات الناجحة-الفاشلة-في التحوّل، لا تتعرّف على نفسك حتى بعد نجاحاتك. أنت في آخر الطريق.. ستكون وحيدًا! ستغطّيك خطاياك، وقاذوراتك، ستكسو ملامح وجهك الديدان الطفيليّة، وسيحطّ على فمك الذباب. سيتركك الجميع.. وحيدًا. لانفسك، لاجارك.. لا أحد.

(أيها الجسدُ المُتبّل بالآلم.. أيها المطر الأرجواني الوحشيّ.. تهطلُ غيماتك السّود في الأحراش اليابسة، في غيابةِ النفس تنمو أكاليلُ الشّوك. يترعرعُ الألم. يتفتّقُ برعم الوسواس والتحوّل. الخجلُ يطفو كلوحٍ زنخ. يتشكّل كورمٍ مُخيف. ينمو بسرعةٍ في نفسي […] كان داخلي يُصارع بقسوةٍ لكنني هُزمت […] لكنّي الآن قبيحٌ مشوّه، تدبُّ على جسدي قاذورات الأرض وديدانها، وكل عفنها. المعركة التي حدثت داخلي ملأتني بالأخاديد والندوب […] صوتي ينهار بداخلي كسدٍّ طينيّ قديم يُذيبه المطر […] الخوف من كل الأشياء حولي جعلني أنتفضُ رعبًا. تتهيأ كل خليّة لمجهول.. لكابوس يأتي في أي لحظة.
اللحظة التي هي أساسُ عذابي جاءتني بدفقة من الشجاعة، إنصبّت في قلبي الموهِن وتسرّبت إلى قدمي. كُنت مثقلًا بإفرازات العالم. بجيفهِ المطمورة).

*

قد قرأت بعضا من الكتب لشخصيّات ليبيّة سابقة ولكنها قليلة جدا، وهذه المجموعة الصغيرة الجديدة، أيضا قليلة للحدّ الذي لايُذكر.
أتمنّى الحصول على مجموعات أُخر 🙂 سواء لكُتّاب ناشئين، أم القُدامى و أخصّ بالذكر خليفة الفاخري بالذّات.