وحيدا في الخراب.

 

كانت تلك الطريقة المعهودة

للذهاب لمسارح المعارك البشريّة

كل واحد، لديه غرفة..

غرفته الخاصّة،

بمسرح معركته الخاصّة.

تتمشّى بين الممرات

بفستانها السمائي الممزّق

وحذاءها الأسود المهترىء

joshua flint

Painted by: Joshua Flint

لايدخل أحد مسرح معركته وهو بكامل أناقته.. “هكذا قيل”.

تشاهدهم وهم ينغمسون في أحزانهم

مسارح المعارك المغطاة بالدماء

وقطع الأحشاء المبعثرة

التي تحجب عنها الطريق أحيانًا.

تمشي وتشدّ على معصمها.

كلما مرّت بأحدٍ يصارع نفسه.

تنظر إليهم والرعبُ يملأ قلبها.

تشاهدهم يسقطون،

الواحد تلو الآخر.

كحبّات مشمش نضجت

حتى تلفت.

ولم يأتِ أحد لقطافها.

مُتجهة لمسرح معركتها

وفي يدها تُمسك ممسحة

وصابون..

وباليد الأخرى

دلو مليء بالماء والمُطّهر.

هكذا تعوّدت.. منذ مدة طويلة

عندما أدركت بأنها الآن لوحدها

تعلمت أن تُنظف مسرح معركتها بعد الإنتهاء،

على غرار الآخرين.

أن تصب الماء القدسيّ

وتمسح الأرض

والجُدران..

وعند الإنتهاء، تغسل وجهها به.

روحها تتجدد

وقلبها يتجدد

ووجهها يتجدد

ونفسها تتجدد

وتخرج،

لتواجه معاركها مجددًا.

مُغلقة الباب بهدوءٍ تام.

تمرّ من جديد من نفس ذات الطريق

تمر بنفس الغرف

بنفس الأشخاص.

بعضهم يتقئ روحه..

“مسكين” تهتف لنفسها.

جُدرانٌ ملطخة.

وصرخات مُدوية، لا يسمعها أحد.

آلامٌ مبعثرة في كل مكان..

تشدّ على معصمها كما تفعل دائمًا

تشدّ حتى تعبر الطريق بسلام.. مرة أخرى.

 

هلوسات خلال إنقطاع التيار الكهربي .

image

إفتخري إنّك بنغازيّة

( كل شيء هُنا في بنغازي يثير الغثيان ، الشوارع ، الغاز ، الهواء ، طوابير الخبزة ، الأمل ، الخوف ، الموت ، التفجير ، علبة العصير الفارغة ، الممرات الضيقة ، إشارات المرور ، الأطفال الذين يتجمعون صباحا لللعب بدلا من الذهاب إلى المدرسة ، إنتظار اللحظات الحاسمة ، سقوط الصواريخ ، اللامبالاة إتجاه الرصاصات الطائشة ، العمر الذي يركض أمامنا و لا نستطيع اللحاق به .
كل شيء أصبح مُبهما ، الناس صرعى يواجهون الحياة مغمضي الأعيُن .
إننا في بنغازي ، كذلك السجين الذي يرى من ثقب الجدار الناس يلهون و يلعبون ، و هو يصرخُ للنجدة ، يصرخُ و يصرخ ، بأعلى صوته ، لكنّهم لا يسمعون . لا يأبهون ، و هو مسكينٌ يتخبّط بين الجدران .
أهي لعنةٌ إذًا أن تكون من هذه المدينة ؟
أصبحت هذه المدينة ، منكوبة ، و هي من كانت تفتح ذراعيها المملوءة بالزهور لإحتضان الغرباء وتنسُبهم لها ، و تبكي معهم . هذه المدينة أصبحت تلفظ من كانت تظنهم أبنائها للخارج ، تودعهم بدموعٍ حارّة ، ترثي نفسها ، و أرضها ، شوارعها و كل زاوية منها ، تحدّث نفسها ” أحببتكُم أكثر مما ينبغي ، و أحببتُوني أقلّ مما أستحق ” ، بنغازي أصبحت ضيقة ، ضيقةٌ حدّ الإختناق . ! )✺

هذه الكلمَات و العياذ بالله ، كُتبت في لحظات من إنقطاع التيار الكهربائي ، في أجواء باردة جدا ، و الكره الذي يملأ بعض الأسطر ماهو إلا حُبٌ ولكن بطريقة ما خاصة .

نعم ؟

تنتشلُني فجأة . من بين كومة الجموع الحاشدة .
تدخُل فجأة . تخترق الجدران الصلبة .
تنتزع الشباك .
أثار أقدامك مغروسة في الأرض .
تصرخ بإسمي عاليًا . بأعلى صوتك .
تصحبُها بـ أين كنتِ ؟ أين أنتِ ؟
هكذا ! فجأة ، بدون الإحّم أو التستور .
هكذا ، بنفس الأسلوب العالي ، الصراخ ، الهذيان ، الخرطقات ، تدخُل فجأة .
بأوراقك ، بشروطك ، بتحذيراتك ،بمزاجيتك ،بعصبيتك ،بغبائبك ، بدهائك ، بقميصك الأسود ، بـ يداك الطويلتان ، هكذا ، فجأة .
تطرحها على الطاولة ، أوراقك ، تطرحها كلّها ، بنظرةٍ حادة ، تقول :
هل تقبلين .
كيف لي أن أقول غير كلمة ” نعم ” .

من الليل للليل !

من الليل للليل ! و كل شخص في هذه البُقعة ينتظر سقوط شيء ما في شارعه .


ولكأنّ الإيمانيّات لا تنزل إلا وقتَ المِحن ؟

 
واحد , إثنان , ثلاث , أربع … أصبري ! .. خمسـه ! وبصوتٍ يمتلأ بالراحه , و بإبتسامةٍ صفراء , و تنهيدةٍ طويلة , ننتظر .

” اللهمّ إحفظنا عن يميننا و عن شمالنا ومن فوقنا ومن تحتنَا و أعوذُ بعظمتكَ أن يغتال من تحتِنا “

هكذا نمضي بعض ليالينا في عد الصواريخ المُنهمرة في الليلةِ الظلماء , و في تحليل الوضع العسكري , و لعن حظّنَا !

إلى متَى ؟
كيف لهم أن يروا بعضهم ليلًا ؟
لماذا لا يتركونا نرتاحُ قليلًا ؟
كيف وصلنا لهذا الوضع !؟

تقُول :
إنها ليلة سقوط غرناطة .
في الليلة الأخرى إنها ليلة سقوط بغداد .
و من بعدها إنها حتمًا ليالي النوق البيض* .
ثمّ تحدثُنا عن ذكرياتها , وعن ما حدث أيّام الغارة .

هي ليلةُ عابرة , كأخواتها من الليالي السابقات
ليلةٌ من الليالي الحالكاتِ سوادًا
يتوسطها قمرٌ مُنير
الليالي المُمتلئاتِ صراخًا
فزعًا
خوفًا
و رُعبَ

هنيئًا لمن نام قبل أن تُفزعه الأصوات
و ويلٌ للأحياء الأموات
تجرفهم خيالاتهم في منازلهم وراء الرصاصات
و تأخذ بأيديهم من هول المشهدِ بعض الدعاوات .

/

أذكر مشهدًا إخباري عن إمرأة أوكرانيّة نازحة , تبكي وبحُرقة قائلة بأنّ حفيدها ذا الخمس سنوات بدأ يميّز أصوات الأسلحة .
أضحكتني كثيرًا , ثمّ تذكرّت أطفالنا .

يالتعاسة الإنسان , يا لتعاسةِ حظّنا و يا لتعاسةِ أرضنَا , و يالتعاسةِ العالم أجمع ! .


* النوق البيض مسلسل أردني قديم .