
By me
لم يتركا والدا وورسيلا لها منذ رحيلهما شيئا، ما عدا منزلا صغيرا به غرفتان، واحدة للنوم والأخرى مليئة بما يحصلان عليه كلما ذهبا في رحلتهما الصباحية نهاية كل أسبوع. تتذكّر وورسيلا مشهد إنتظارها لهما عند المساء. يعودان محملين بالكثير من الغنائم في رأسيهما.. فارغي الأيدي. تستقبلهما فرحة.. وتسألهما: ماذا أحضرتما لي؟ ماذا أحضرتما لي؟ يردّان: أحضرنا لك الكثير. “أين؟” تسأل وورسيلا بقلق “لا أرى شيئا! هنا”. تضحك الأم، وتشير نحو رأسها. يدخلان إلى الغرفة ويقفلانها ولا يخرجان منها إلا عند صباح اليوم التالي. تلك الغرفة لطالما كانت محل فضول بالنسبة للصغيرة، مالذي يحدث خلف أسوارها، وعلى ماذا تحتوي تحديدا؟ ولما تنبت أوراق خضراء على جدارنها؟
في ليلة غائمة، أمام عتبة المنزل، إنتظرتهم وورسيلا بضفيرتيها الذهبيتين، لكنهما لم يعودا. مرت الأيام والأسابيع. ولكن شيئا لم يحدث.
دلفت الصغيرة المنزل، وجلست متسمرة أمام الغرفة. بعد عدة دقائق، نهضت وبدأت تبحث عن المفتاح. وبعد محاولات كثيرة فاشلة. عادت وجلست أمام عتبة منزلها، منتظرة عودتهما من جديد.
دخلت من جديد، تحمل قلبها المثقل بالحجارة بين يديها. إقتلعت باب الغرفة غاضبة. ظنت أنهما.. ربما، إبتلعتهما الأوراق والكتب بداخلها. لكنها كانت مخطئة. الغرفة.. خضراء. جنّة صغيرة. جدرانها ناصعة البياض، تعانقها مكتبة خشبية ممتدة حدّ السقف، ما إن تمد يدها لإلتقاط أحد الكتب حتى يطير الغبار والفراشات. تفتح الكتاب تلو الأخر، وتتمدد منه أغصان طويلة بنيّة اللون، وأوراق صغيرة خضراء.. تتفتح الأزهار البريّة الواحدة تلو الأخرى.. تلتقط هندباء، تنفث فيها وفي قلبها أمنية. رقصت بين أحضان الأوراق والفراشات، حتى لمحت الجرّة في زاوية الغرفة. تحركت بإتجاهها بدهشة صغيرة، تملؤها الخيبة.. ما إن أمسكتها، حتى نفث منها شعاع خافت.. تطلعت بداخلها و بدت لها أوراق صغيرة مطوية بها الكثير من الكلمات. كل ورقة تحمل بداخلها كلمة. حرّكت الجرة قليلا، ووجدت صناديق صغيرة مرتبة بالأرقام فوق بعضها، فتحتها الأخرى ووجدت أوراق صغيرة أيضا و مطوية وبها كلمات أخر. دُهشت لما تراه عيناها. فكّرت بما قد تفعله بكل هذه الكلمات. مضت ليلتها وهي تقرأها، وفي كل مرة تقرأ إحدى الكلمات حتى تشعر بتشكّل فقّاعات داخل رئتيها تخرج بخروج الكلمة من حبالها الصوتيّة.. فكّرت كثيرًا، بما قد تستفيد به من هذه الأوراق الصغيرة. وبحثت في الغرفة حتى شروق شمس صباح اليوم التالي. عزمت بعد ذلك، وبعد بحث طويل، أن تذهب إلى القريةِ التي تحدّث عنها الجميع ووالداها، حيث لا يسكنها إلا من نقصتهُ كلمة، ولم يستطع إتمام جُملته.
وضعت في حقيبتها خبزا محمصا، وعلبة مربى البرتقال التي تركتها والدتها على الرف قبل أن تذهب، وأفرغت كل الصناديق والجرات في حقيبتين صغيرتين، وماتبقى من الأوراق وضعتها في جيبيّ المعطف. أقفلت باب الغرفة، وباب المنزل وخطت خطواتها الأولى في الطريق، ضائعة، محاولة لملمة شتات نفسها.. قليلا قليلا، حتى وصلت.
وما إن حطّت قدماها على الأرض الواسعة المملوءة بالمنازل الخشبيّة، حمراء اللون، حتى بدأت بالبحث عن من تنقصه كلمة؛ لتبيعه الكلمة المناسبة ويُنهي حديثه. كان الجميع يعاني من تلك اللعنة، أحاديث غير منتهية. جلست في الساحة، رفعت يافطة كُتب عليها بخط كبير “الكلمة بخمس دراهم”.. إنتظرت.. لم ينتبه لها أحد. ثم، وبعد مرور عدة دقائق طويلة.. توافد عليها شخص، ثم إثنان.. ثلاثة.. ذاع صيتها، الجميع فرِح والدراهم تتساقط على رأسها كحبّات المطر، وهي ضاحكة متبسمة.. بيعت الكلمات في سبع دقائق. الكثير الكثير من الأحرف المتلاصقة. الجمل الناقصة إنتهت، كل الأحاديث والنقاشات حُلّت. أحدهم حصل على وظيفة، الأخر تزوّج.. الأخر أعرب عن قلقه.. الجميع تحدّث.. و الصغيرة فرِحة بما صنعت.. حملت يافطتها وحقائبها الصوفيّة الفارغة من الكلمات، وحقيبتها المملوءة بكسر الخبز المحمص والدراهم. عادت إلى المنزل، ومن وراءها حفل راقص، وأغاني وأحاديث مطوّلة في القرية التي لن تنام بعد الآن. وبعد يوم كامل من الإحتفالات.. دخلت لباحة المنزل، ألقت كل ماتحمله على الأرض، ركضت نحو الباب الذي فتحته بقوة.. أرادت أن تنادي على والديها لكن شيئا قد حدث.. شيئا قد إختفى، الغرفة الخضراء أصبحت مُظلمة.. الكتب أصبحت مجلدات جافة فارغة يأكلها السّوس. الكثير من الصناديق المبعثرة. والأوراق اليابسة والأغصان المتناثرة بلونها الأسود. أرادت أن تنادي على والديها.. لكن الكلمات قد رحلت. الحروف إختفت. الفقاقيع ماعادت تتشكّل. وصوت عويلٍ خافت يتردد صداه من طفلة صغيرة، يُسمع في كل ليلة أمام منزل يقبع في وسط الغابة. ذيع صيتها مرة أخرى. لا يمرّ من أمامها إنس. تصطاد المارّين لتنزع كلماتهم، حتّى تقوم بكتابتها من جديد في ورق صغير وتُلقي به في جرة.
رائع يا أمينة. سلمت يداك.
إعجابLiked by 1 person
أستاذ راضي، سرّني مرورك وتعليقك كثيرا.
دمت بخير ❤.
إعجابإعجاب