صديقي العزيز، أشعر بالبرد الشديد، على الرغم من أننا في العاشر من شهر يونيو 2017، وعلى الرغم من الحر والرطوبة التي في الخارج، إلّا أن ثمة ريح باردة مندسّة تتسلل بين طبقات الجو لتلطيفه قليلًا. أنا أشعر بها.. أم أنه جهاز التكييف؟.
اليوم إستجمعت قواي، وذهبت للسيدة الألمانية التي أخبرتك عنها سابقًا (مارتا هيلرس) التي تكتب مذكراتها عن الحرب في برلين.. تذكرها؟ انها منهكة، ومتعبه ولكنها بأفضل حال من ذي قبل. اليوم هو الإثنين 21 مايو 1945 الجيش الأحمر إنسحب من الشوارع قليلًا، وعادوا إلى ثكناتهم العسكرية. تحتفظ مارتا في جيبها بورقة مكتوب عليها القرار الصادر مؤخرًا: يمنع على أي عسكري روسي الدخول إلى المنازل عنوة.
انها تشعر بالفرح، لايمكنني أن أصف لك الفرحة التي ترتسم على ملامح وجهها كلما أخرجت الورقة من جيبها وقرأتها لي من جديد. هذه الورقة ستحميها من الإغتصاب. وعندما يتعرض لها أحد ما من الجيش الأحمر ستخرج له الورقه وتعرضها أمامه ليعود بضع خطواتٍ إلى الوراء.. لازالت تنام بقلق مستمر، كما قلتُ لك سابقًا، إنها إمرأة ولايمكنها فعل شيء حيال ذلك. تتذكر دائما ماحدث لها.. تصرخ أحيانا في وجهي بدون أي سبب: إنه كابوس.. هل تعرفين شكل الكوابيس التي تلاحقك بإستمرار حتى وأنت مستيقظه؟ لا.. لاتعرفين.
إنها متحدثه رائعه، تتحدث الألمانية والروسيّة والقليل من الفرنسيّة.. وأنا بائسة لا أتحدث إلا العربيّة، ولكننا ومع ذلك نفهم بعضنا البعض.
قدمت لي الخبز، وقليلًا من شراب عصير الليمون الحامض.. إستسمحتني عذرًا وذهبت لتسقي خضرواتها التي زرعتها مؤخرا في الشرفة بعدما بدأت بالنهوض بنفسها.
السابع من يونيو 2017، أفتح اليوتيوب أختار إحدى الأفلام الوثائقية لمشاهدتها.. أبحث عن الآلم عن وجه سيحفر في ذاكرتي لكي لا أنساه..
أبناء الحرب.. المغتصبات في البوسنة، انا الآن في الأول من إبريل/نيسان عام 1992، الحرب على البوسنة قرعت طبولها، الكروات أعلنوا الحرب، ولايبدو لي بأنها ستنتهي عما قريب. أُمضى وقتي في المشاهدة، الدقائق تمرّ كالأعوام، بطيئة جدًا!.
الآن أكتب هذا. الساعة الرابعة فجرا يوم السبت وبعد عدة أيام من مشاهدتي للفيلم أبكي بلا سبب. أتذكّر بأنها كانت سيدة قويّة، رئيسة إحدى المنظمات في البوسنة، تتحدث عن حقوقها المنسيّة هي وجميع المغتصبات، وعن رغبتهنّ الشديدة في القبض عمن قام بتلك الأفعال الهمجيّة، تتحدث بكل صلابة وكل حزم وقوّة، الوحيدة التي جذبت إهتمامي الكامل، إلى أن تطرقّت لذكر أحداث قصتها.
حسنا، لم أكن أعلم بأن وراء كل تلك الصلادة قصّة.. فاتتني قراءة الشريط، لا أذكر إسمها ولا إسم منظمتها.. ولكنني أذكر وجهها وهذا يكفيني. على مرأى عينيّ إنكسرت فجأة، إنهار كل شيء وتحطمت أمامي.. جارها الشرطي الصربي هو من أبلغ عنهم، وهو من ساعدهم على إرتكاب هذه الجريمه، لازالت تبحث عنه علّها تجده لتقدمه إلى العداله.
أنت لاتعرف مدى كميّة البؤس وقلّة الحيلة التي شعرت بها في تلك اللحظة، ولاتعرف كم أكره هذا العالم الآن. ولاتعرف أيضا كم أتمنى أن ينتهي كل شيء بسرعة.
بكاء تلك السيدة وغيرها، ومعاناة السيدة مارتا مع الجيش الرّوسي كعيّنة بسيطة لما حدث في تلك الحرب. مزّق شيئا ما في قلبي، وأنا لا يمكنني أن أعود كما السابق ولا يمكنني أن أشعر كما السابق، وكل شيء الآن تغيّر.. ولايمكن إصلاحه.
ليأخذ ربّنا بيد النساء، وينصفهنّ في هذه الحياة ويحقق العدالة الدنيوية في مرتكبي كل تلك الجرائم أمام أعينهنّ.
أحسستُ بضآلة حجمي، وحجم مأساتي والحرب التي أعيشها منذ عدة أعوام.
الحرب.. على بعد عدة شوارع منّي، ولا أعرف كيف سأنجو من كل هذا، أنا في حلم طويل .. أقصد كابوس، ولا يريد الإنتهاء.. قفص كبير، ولا شيء يبدو لي عادل في هذه الحياة.. لا الأهل، لا الأصدقاء ولا الساسّة الملعونين ولا أحد.
نقدّر لك ما تقدّمينه للتدوين حرفا و فكرا
و ندعوك لزيارة موقعنا الجديد للتواصل و التفاعل و المتابعة
https://sociopoliticarabsite.wordpress.com/
شكرا .
إعجابإعجاب