لماذا يجب أن يقرأ الجميع الشعر.

“ﺍﻟﺸﻌﺮ ﺑﺤﺚ ﻋﻦ ﻛﻠﻤﺎﺕ ﻧﺼﻮﺑﻬﺎ ﻧﺤﻮ ﺣﻮﺍﺟﺰ ﺍﻟﻤﺠﻬﻮﻝ ﻭﻣﺎ ﻻﻳﻤﻜﻦ ﺇﺩﺭﺍﻛﻪ. ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻧﺺ ﺷﺒﺤﻲ ﻳﺨﺒﺮﻧﺎ ﻛﻴﻒ ﺗﺘﺸﻜﻞ ﺃﻗﻮﺍﺱ ﻗﺰﺡ ﻭﻟﻤﺎﺫﺍ ﺗﺨﺘﻔﻲ“

-ﺟﺎﻥ ﻛﻮك.

منذ مدة قرأت لبورخيس كتاب صنعة الشعر الذي يضم ست محاضرات ألقاها في إحدى الجامعات، يتحدث بورخيس عن ماهية الشعر وتأثيره في نفوسنا، كما أنه تطرق لموضوع ترجمة الشعر وهو موضوع مهم جدا.
يقول بورخيس بأن الحياة مكونة من الشعر، وبأنه يترصدنا في كل مكان، كما أنه يعرف الشعر على أنه التعبير عن الجمال بكلمات محبوكة بصورة فنيّة.
ثم يعود عن كلامه ويقول وبمعنى أن المرء منّا لايمكنه الإقتناع بهذا التعبير.. إننا نعرف ماهو الشعر، نعرفه للحد الذي لا نستطيع التعبير عنه.
هُنا نقف عند ماقاله بورخيس سابقا، الشعر يصنف من الفنون الجميلة، والأشياء الجميلة التي تمس الروح وتنهض بالنفس إلى أعلى درجات الصفاء والنقاء، لايمكن أن يتم التعبير عنها وتعريفها بشكل يليق بمقامها.
لذلك لايمكنني أن أتخذ تعبيرا مناسبا للشعر، فمثلا لو سألني أحدهم لماذا تقرأين الشعر بكثرة، سيكون جوابي بكل بساطة لأنني أحبه، لن تكفي هذه الإجابة السائل ولن تشبع فضوله.. وان كان من فظّي النفس، سيردعني وسيحاول أن يرجعني إلى صوابي بإقناعي بأنه مجرّد إضاعة للوقت.
لا أعتقد بأن كل الكلمات ستكفي للتعبير عن مدى حبّي لقراءة الشعر، وأخص بذلك النثر.
تقول الشاعرة الروسيّة آنا أخماتوڤ عن الشعر في ديوانها قدّاس جنائزي;

“كان النثر يثيرني دائما، كنت أراه مليئا بالأسرار“.

هُنا تكمن المتعه حقيقة، فالوقوف على الكثير الكثير من النصوص، والكلمات ومحاولة فك تلك الألغاز هو أمر ممتع حقا، لايكتفي المحب للنثر بقراءة الديوان وتركه بمجرد عدم فهمه للمحتوى، بل يبحث ويقرأ عن مايقصده الشاعر من وراء كل تلك الكلمات الساحرة.
أذكر بأنني أمضيت يوم كامل في فهم ديوان سعيد عقل “المجدليّة“ وشعرت بالإعتزاز والنشوة بمجرد فهمه.
ولكن أحيانا.. يُجبرنا الشاعر على ترك الأمور كما هي، لا نمسّها ولانحاول فهمها، ولا السؤال لماذا؟.. كيف؟.. ومتى!.
في تلك الداواين التي يتم تهميشها أثناء التحدث عن قراءة الكتب، تسطّر أكبر الملاحم والسير الذاتيّة، الحروب والمعاناة الحقيقيّة التي يُعانيها الشاعر طوال حياته، أحداث سياسيّة وإجتماعية لن تجدها في الكتب المتداولة، هنا فقط يتم التحدث عن البؤس والسعادة والحب ونقيضه بجمالٍ آخّاذ لايمكن للمرء إلّا أن يبكي من شدّة حُسن تصويره وقرابتها للكمال.

“ﺳﻴﺮﺓ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﻫﻲ ﺷﻌﺮﻩ. ﻛﻞ ﻣﺎ ﻋﺪﺍ ﺫﻟﻚ ﻣﺤﺾ ﻫﺎﻣﺶ“

-ﻳﻔﻐﻴﻨﻲ ﻳﻔﺘﻮﺷﻴﻨﻜﻮ.

السير الذاتيّة تُسطّر في دواوين بسيطة، المبشرون بالحزن لحسن إبراهيم الحسن:

كلما قلت إستعدّت ممالك النسيان
داهمني الرفاق الغائبون
فقاسموني ملح أغنيتي
وعاثوا في منامي.

رياض الصالح الحسين، توفي وهو يناهز السبع وعشرون عاما.. الشاعر الأصم والأبكم ثلاث دواوين وخرابُ دورته الدمويّة..

ولا شمسٌ ساطعةٌ في قلبي.

إنّه مثال حي على أنّ المرء لم يُخلق عبثًا.

فيدريكو غارسيا لوركا، الشاعر الإسباني الذي قُتل على يد الفاشست الإسبان.. تنبأ بموته:

ﻋﺮﻓﺖ ﺃﻧﻲ ﻗﺪ ﻗﺘﻠﺖ
ﻓﺘﺸﻮﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻫﻲ ﻭﺍﻟﻤﻘﺎﺑﺮ ﻭﺍﻟﻜﻨﺎﺋﺲ
ﻓﺘﺤﻮﺍ ﺍﻟﺒﺮﺍﻣﻴﻞ ﻭﺍﻟﺨﺰﺍﻧﺎﺕ
ﺍﺳﺘﺒﺎﺣﻮﺍ ﺛﻼﺛﺔ ﻫﻴﺎﻛﻞ ﻟﻴﻠﺒﺴﻮﺍ ﺃﺳﻨﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺬﻫﺐ
ﻟﻢ ﻳﺠﺪﻭﻧﻲ
ﺃﺗﺮﺍﻫﻢ ﻟﻦ ﻳﺠﺪﻭﻧﻲ ﺃﺑﺪﺍ
ﻧﻌﻢ ﻟﻢ ﻳﺠﺪﻭﻧﻲ ﺃﺑﺪﺍ.

وغيرهم الكثير الكثير ممن قرأتُ لهم، وقد لاتتسع لهم هذه التدوينة، إلّا أن حقيقة مادفعني لكتابة هذه التدوينة هو سر قلّة القراءة للشعر الحديث في بلادنا وعدم التحدث عنه بكثرة.. كما أنه أثناء التحدث عن نوع الكتب التي يقرأها الفرد يتم تجنب الحديث عن الشعر بطريقة أستغربها.
كيف للمرء أن يفوّت قراءة تلك الكتب الصغيرة التي تحمل الكثير من المعاني والسمو الروحي.
عندما أقرأه.. أشعر بالفراشات التي تريد أن تنفض من قلبي، وأفكر بأؤلئك الذين لا يولّون الإهتمام به ولا يرونه إلا مجرّد ترّاهات لاتُسمن ولاتُغني من جوع.
يقول سومرست موم:

“ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻫﻮ ﺗﺎﺝ ﺍﻷﺩﺏ. ﺇﻧﻪ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﻭﺍﻟﻬﺪﻑ. ﺇﻧﻪ
ﺃﺭﻗﻰ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﻨﺸﺎﻁ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ. ﺇﻧﻪ ﺑﻠﻮﻍ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﺪﻗﺔ. ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻮﺳﻊ ﻛﺎﺗﺐ ﺍﻟﻨﺜﺮ ﺇﻻ ﺃﻥ ﻳﺘﻨﺤﻰ ﺣﻴﻦ ﻳﻤﺮ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ“.

وينحني قاريء النثر محييًا إيّاه.
المرء منّا يحيا بالشعر، والكلمة العابرة التي ليس لها أي معنى، وحده الشعر يُضفي لها المعنى ويُحييها.