دودة الكتب “السيدة فوزية“.

image

يتحدث جارنا مؤخرا عن الكراسي التي قام بتبديلها في منزله للمرة الثانية على التوالي، ويقول بأنه لم يغيّر كراسي المنزل منذ مايزيد عن عشرين عاما ليس بخلا منه ولكن لأنه لايحب التغيير، “اشك في ذلك“.
ولكن مؤخرا لم تعد مريحة، يشتكي من كرسيه المفضل، ومن كراسي المنزل كلها بدون إستثناء.  “ألم في الظهر، والجلوس متعب جدا” هذا مايكرره كلما رأى العم يوسف جالسا على كرسيه أمام منزله.
في شارعنا كل شخص لديه كرسي بكنبه مريحة أمام منزله، الا السيد سليمان، فكرسيه داخل منزله.. يخاف عليه من القطط، ومن براز الفئران والأخطر من كل هذا، الأطفال.
تشاركه زوجته تغيير الكراسي وتنجيدها بكل حب وإنسجام، حتى أنها ساعدته في تفصيل كرسيه الجديد وإختيار لون مناسب يعكس لون غرفة المعيشة.
نسيت أن أعرفكم.. السيدة فوزية، القارئة والمتعلمة الوحيدة-وأنا بعدها طبعا بما أني أصغر سنا-في الحي.. تخرج صباحا للسوق وتعود مساء بأكياس مزخرشة جميلة جدا، ليست كباقي الجارات اللاتي يمشين معها وفي أيديهن أكياس للبطاطس والخضروات والفواكه، لا بل أكياسها فاتنه كحذاءها البني اللامع.
لا تعمل، ولكن والدها يرسل لها كل نهاية شهر، مرتب يكفيها ويكفي سكان الحي أجمع.
أمر بجانب منزلهم أحيانا لأتأمل في جمال ذلك المنزل الهاديء المهتريء، تقول أمي بأن هذا المنزل منذ عهد الطليان، وعندما سكن السيد سليمان وزوجته لم يغيروا شكله، بل محتواه فقط.
يالهذا المنزل الجميل -أقول لنفسي-
ولمحتواه الذي يؤرقني ليلا.
لم أدخل لمنزلهم إلا مره واحدة فقط، كنت في الخامسة من عمري، وكنت ألعب في الصالة أدور على نفسي، وأتبع طريقا لا أدري إلى أين ستوصلني وأعلم جيدا إذا أحست أمي بإختفائي ستوبخني.. ولكنّي وجدت نفسي صدفة واقفة في إحدى الغرف التي تشعّ نورًا.. تلك الغرفة.. المليئة بالكنوز الغالية الثمن.
تمتدّ من الأسفل حتى السقف، ممشوقة القامة، ورائحتها تفوح برائحة الورق القديم والجديد، رائحة الحبر الأزرق تملأ المكان، والطابعة الكبيرة في زاوية الغرفة، والمكتب الصغير الذي يتوسطها.. وخلف ذلك المكتب صور كثيرة جدا، لازلت أذكر تلك الوجوه المعلقة على الجدار، كثيرة جدا.. كنت واقفة مندهشة بهذا الكم الهائل من الجمال إلى أن قطع تأملي صوت حذاء السيد فوزية التي أمسكت بي وقالت “عندما تكبرين ستعرفين من هؤلاء“..
الأن كبرت، وعرفت إحداهما لازلت أذكر وجهها حتى الآن، فعندما مررت بجانب إحدى المكتبات رأيت وجهها على الغلاف كانت أناييس نن تتوسط الغلاف مغطاة بشالٍ شفّاف يخفي نصف ملامح وجهها.. وفي الجزء الأخر وفي أغوار المكتبة وضع كتاب يجلس في غلافه فلاديمير نابكوڤ، كانت صورته معلقة أيضا على الجدار.. إنه لمضحك حقا أن أتذكر تلك الوجوه الآن..
عرفت في تلك اللحظة أن كل أولئك المعلقين، كانوا أدباء أحبتهم كثيرا فكرمت وجودهم بتعليق صورهم على جدار الغرفة، خلف مكتبها الأبيض الصغير، كان درويش يتوسط الجميع.
أثناء الليل، أقف أمام الشرفة أرقب الغرفة وضوءها الساقط على غرفتي، حتى الساعه الواحدة ليلا، وأتساءل عن كم المتعة التي تعيشها السيدة فوزية الآن.
أغمض عيناي أحيانا، وأستحضر كل تلك الغرفة في غرفتي الضيقة الصغيرة، وأبتسم، ثم أبتهل وأصلي لله “إبنِ لي جسرا يصلني بها قبل أن تنهشني كثرة تطريز الملابس، أو أن تمطر عليّ قليلا من النقود لأشتري كتبا جديدة.. فقد مللت يالله إعادة قراءة روايتا أغاثا كريستي كل مرة.
يالله أنت تعلم بأنني أريد إنفاق تلك النقود في شيء مفيد، فساعدني ولو بالقليل“
*
ولكن يؤسفني حقا أن كل تلك الأحداث وكل تلك الأحلام إنتهت على حين غرة.
أثناء عودتي من المدرسة اليوم، وبعد عدة أيام من وصول النجارين لمنزل الجار سليمان للمرة الخامسة على التوالي، يخرج للملأ وهو يضحك ملأ شدقيه، بأنه إكتشف سبب قلّة راحته..
“زوجتي، تضع كتبها أسفل الكنبات التي أجلس عليها في المنزل، تلك الكتب ذات الأغلفة المهترئة، عندما أكتشفت ذلك، إنتقمت!  نعم إنتقمت.. مزقت كل تلك الكتب، وعندما عادت رأتها في كل الغرفة. إنني إنتقمت لكل ساعة وكل دقيقة شعرت بها بالآلم، وشعرت بها بعدم الراحة.. سألتها لماذا فعلتي ذلك، قالت لي بأنني لا أقوم بفعل أي شيء وليس لي فائدة، فقررت أن أجعلك ذو فائدة“.
ركضت بكل ما أملكه من أرجل داخل المنزل، ورأيت كل تلك الكتب الملقاة على الأرض، والأغلفة الممزقة والدماء، وشعرت بأنني كالأوراق تماما.. مثلهم أتمزق كلما لمست أحدهم.
السيدة فوزية خرجت من المنزل ولم تعد، أخذت إبنتها وكنوزها كلها ولم تعد.. وتلك الغرفة لم تضاء منذ ذلك اليوم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s