السيّد “عين“.

📖🔖

كلما مررت بجانبه صباحًا، مساءً.. كل يوم. 
يخبرني بأنني سوف أجلس بجانبه يوما ما، وأُحادث أصدقاءه الذين رفضتُ محادثتهم مسبقًا، يقول لي كلما لمح طيفي.
“لست أعلم ماهو سبب تشبث الحياة بي لهذه الدرجة، أرى نفسي تموت كل يوم، والنّاس تضحك عليّ، أعيش على مايُلقى بجانبي، آبنائي نبذوني في العراء، وكل هذا العمر الذي عشته.. ألا يكفيها ذلك؟” ثم يقلّب عينيه ويعود لأصدقائه يخبرهم للمرّة الألف عن ماكان يفعله أثناء صغره، يُحدثهم تارة عن ما فعله والداه إبان الحرب العالمية الثانية، وكيف تمّ قتل والده من قِبل عسكري إيطالي أمام مرأى ومسمع كل من كان بالمخيّم.
*
كنت قد وضعت كيس القمامة على حافة الطريق، كالجميع، وعندما ذهبت بإتجاه السيارة، شعرت بأن أحدهم وكزني من الخلف وإلتفتّ لأراه يفتح الكيس يُفتش، ركضت بإتجاهه وحاولت إبعاده عنها ولكنه رفض. “أنا قمامة، ولا أكل إلا من القمامة، وإلا لما تركوني أبنائي في الشارع”.
*
هو السيد أو الحاج، في الواقع لا أعرف إذا حج سابقا أم لا.. ولا أود ذكر إسمه حقيقة، فأنا لا أعرفه تحديدا، يوما يقول بأن جدته أسمته أسعد، ثمّ يقول أن إسمه أحمد على إسم جدّه، وأحيانا يقول بأنه لايذكر إسمه بالتحديد ولكنه يعرف الحرف الأول “ع” عبد الملك، عبد المهيمن، عبد اللطيف، عمر، علي.. عبد.. عبد الله.

ويقول بأن لديه ثلاثة أولاد، يومًا يحبهم ويوما يكرههم، ويصلّي لينهار سقف منزل كل واحد منهم على رأسه وأولاده وزوجته، ثم يبدأ بالتحدث عن زوجات أولاده، يبصق يمينا ويبصق يسارا ويتعوذ من الشيطان ويبكي،
لكنّه في اليوم التالي يتحدث عنهنّ كأنهنّ الملاك بعينه.
“ماعدت أعرف تحديدا من أين ينبع هذا الشر الذي كان يحوطني ويهاجمني كل يوم من كل جانب، أهو من أولادي؟ أم من زوجاتهم؟ أنا متأكد أنهم الأطفال.. نعم الأطفال هم من لا يريدونني، إنهم شياطين الله الإنسيّة”.
*
في أواخر حياته كان يتحدث كثيرا عن والدته التي تعبت كثيرا لتربيّه حتى وضعها في دار العجزة، كان يزورها كل يوم، لم تسامحه قط، رغم أنه طلب منها السماح والغفران بدون كلل أو ملل.
كان يعتذر منها كثيرا عندما أصابته الحُمّى، كان إسمها فقط من يهذي به “فطيمة“. كان يسألني كل مرة عندما أزوره في المستشفى “أتظّن أن فطيمة سامحتني؟ هل تعتقد بأنها غفرت لي ذنبي؟ أتظن بأنها إنتبهت لغيابي يوم دفنها في المقبرة؟“
أُطمئنه بأنها حتما لم تنتبه وأنها كانت منشغلة بالقيام بأشياء أخرى أهم.
رحل منذ عدة سنوات، كأنها البارحة.
“الأن سأرحل، وسألتقي بأمّي هناك، سأطلب منها السماح مجددًا، وإن لم أجدها سأنتظر قدومك لنبحث عنها معا. أخبر أبنائي، بأنني لا أريد لقياهُم هُناك، ولتأكلكم نار الحياة شيئا فشيئا، وبلغ السلام لأصدقائي، قل لهم بأنني سأشتاقهُم.“
*

اليوم وبعد مرور خمس وعشرين سنة، أمر بجانب المكان كما هو لم يتغيّر، إلّا أن أكياس القمامة زادت وغطّت واجهة المحل خلفا، وأرى رجلا يجلس في مكانه وبجانبه رجل أخر ورجل أخر ورجل أخر، وكل واحد منهم يلتف حوله أصدقاءه.

أضف تعليق