صباحٌ مُبهم.

كل شيء إبتدأ منذ الصباح، في ساعات معدودة.
عندما إخترقت جدران غرفتي الصغيرة صوت إمرأة ذات لكنة غريبة، تحاول وبشدة إتقان لهجة الشّارع، ولكنها في كل مرة تفشل في ذلك.
بدا لي أنها تحادث إبنها.. لا لا، قد يكون زوجها، أو حفيدها، لا أعلم بالتحديد، كل ما أعرفه أنها تُهاتف رجلا بصوتٍ عالٍ، مُستخدمة ضمائر ذكوريّة. صوتها الأجش إخترق سمعي، وقطع نومي، وجعلني أدرك تماما بأن هذا اليوم ليس يومي، وأن الساعتان التي قضيتهما في النوم، وسهري طوال الليل أكبر خطأ أرتكبه في حياتي.
هدأ كل شيء وظننت أن مكالمتها إنتهت، حتى عاد الصوت من جديد يطرق مسمعي، ولكن ثمة صوت أخر قادم، نعم صوت الشاحنة..
لا!  لم أنم أريد النوم الأن، عودي أيتها الشاحنة من حيثما جئتي. بدأت أتمتم بدعوات غير مفهومة، علها تلتفت وتدخل من شارع أخر إلا أن الحظ ليس حليفي اليوم.
وهاهو يوم أخر ليس بيومي.

.
ما إن إضطجعت على الجهة اليُسرى، حتى سمعت صوت أمي، تتحدّث عن الخبز والمخابز. وأيقنت تماما أنها ستقوم بإختياري لإحضار الخبز.. أوه تبًا، نعم إنه يومي لإحضار الخبز، كيف لي أن أنسى!!.
أريد أن أنام!.

.
دخلت أمّي الغرفة، كنت أتابع خطواتها من أسفل الغطاء بنصف عين مفتوحة، علها تراني نائم وترأف بحالي.
الساعة 8 والنصف، ووجب عليّا الإستيقاظ. فقد فتحت النافذة وأزاحت الستائر، وأيقنت في تلك اللحظة أنني المختار، ولن تأخذها فيّ رحمة.

.
ما إن أطبقت على رقبتي الحُكم، حتى رفعت الفراش لأشعل سيجارة، تُلهيني، وتكضمُ غيضي.
خرجت من الغرفة، وفي يدي اليُمنى لفافة السيجارة واليُسرى هاتفي، ومن أمامي رأيت والدي الخارج من الحمام، رمقني بنظرة غضب، ورأيت وجه أمّي المصفر، ثم تذكرت أن رائحة الدُخان بدأت تفوح في الأرجاء، ويدي ستُقطع لو لم أنجو بحياتي.
ركضتُ بإتجاه الباب، وإختبئت وراءه، وكان بإمكاني سماع صياح والدي، وأمي تحاول وبشدة أن تهدئه، وطابور الخبز ينتظرني.

.
خرجت من باب البناية، جلست أمامها، كان الشارع فارغ تماما، تلك المرأة إختفت، والشاحنة إختفت، كأنهما مرسالان إليّ خصّيصًا.. كل شيء إختفى، عادَ العصفور الذي يطرق شبّاك الجارة المقابل، تلك العجوز الفارة من الحرب، تحتجزها زوجة إبنها في هذه الغرفة، ولم تجد إلا هذه العصافير تؤنس وحدتها، كلما أتت صباحا تجد طعامها على الشرفة جاهز، وأكاد أجزم بأنهما دائما ما يتبادلا أطراف الحديث، يقوم بنقل أخبار منزلها وشارعها المهدّم، تحدثه عن ذكرياتها ويرحل.
ولكن! العصفور هذه المرة أطال الطرق كثيرًا، ليس من عادته!.

.
أشيح نظري إلى اليمين، وأجد تجمعا كبيرا قادما من بعيد، تجمعا يتوسطه ذلك الطفل الصغير الذي يأتي كل صباح للعمل في ورشة النجارة، ملطّخ بالدم، والرجال يصرخون في وجوه بعضهم البعض، وهو فاقد للوعي!، لا ليس فاقدا للوعي، ولكنه يحاول أن يقول شيئا ما ولا يقدر، لابد أنه يريد إسكاتهم، يبدو لي ذلك! حسنًا.سأذهب لإسكاتهم، لا.. لا يمكنني فعلُ ذلك، سيتهمونني بقلّة الإنسانيّة.
لابد أنه يريد أن يمسح الدم الملطخ على كافة ملابسه ووجهه، وأن يعود لإتمام العمل!، ولكن كيف؟.
.. مسكين ذلك الولد، كيف له أن يعيل والدته وأخواته من جديد، من سيوظفه لديه الأن بعد أن فقد أصابعه كلها؟.
في كيس صغير، يلحق بهم صديقه، الكيس مضرج بالدماء والأصابع، يقول لهم بأن يسرعوا لكي يلصقوها له، ويعود له ليعملا معا من جديد.
هذا غبيٌّ أخر سينضم له عمّا قريب.

.
أما اللفافة التي تدور بين إصبعيّ، وذلك الدخان الصاعد ماعدا يؤثران فيّ، وذلك المزاج الذي ظننته سيعتدل، لم يعتدل.
في تلك الحفرة العميقة التي تتوسط القطران رميتها، والمياه تتسرّب إليها من الجوانب، راقبتها حتى إنطفأت.. حتى صعد نفسها الأخير، وعدت أدراجي.

.
صعدت إلى المنزل، دخلت متجهًا إلى الغُرفة، تاركا ورائي صوت قرقعة تصادم أعمدة خيمة العزاء ببعضها، دماء الصبي الممتدة على طول الطريق، صوت الشاحنات، وصراخ أمي وتهديدات والدي من وراء باب الغرفة المغلقة. تاركا ورائي طابور الخُبز الطويل المُتعِب من أجل النوم، علّني أنال قسطًا من الرّاحة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s